لماذا يمرض الأتقياء؟ تساؤلات محيرة تبحث عن جواب

الاخ ايمن يوسف

    إن الحقيقة المؤكدة هي أن المرض قد دخل نتيجة الخطية وسقوط الإنسان، فصار جسده قابلاً للضعف والمرض والموت.  كما أن المرض هو أحد المعاملات الإلهية مع المؤمنين التي تهدف للخير الروحي في النهاية.

   أما السؤال الذي راودني كثيرًا وأثار حيرتي هو: لماذا يسمح الرب بأمراض قاسية لبعض أتقيائه؟ أولئك الذين يطيعون الرب ويعملون مرضاته، الذين كرسوا له الحياة ويكرمونه في أجسادهم بكل طاقاتهم، كل أوقاتهم.  هذه الأمراض القاسية التي وصفها الطب بأنها مستعصية نظرًا لصعوبتها وقسوتها وتعسر علاجها.  سؤال يتردد صداه كلما سمعت عن أحد الأتقياء أنه أصيب بذلك المرض الخبيث، الذي  يتسلل إلى الجسد بدون استئذان، ويزحف خفية منتشرًا في الظلام، ثم ينقض كالوحش الكاسر على جسد فريسته الواهن ليفتك به.

   لماذا يسمح الإله المحب بهذه التجربة لمؤمن تقي يطيعه ويخدمه؟ أليس هو الرب القدير الذي له سلطان أن يحفظ أجساد أتقيائه من الخارج ومن الداخل؟

   في منعطفات الألم الضيقة نتدرب أن نسلم أمورنا ونثق في صلاح إلهنا وحكمته يومًا فيومًا.  ولكن في طريق التسليم للرب والخضوع لمشيئته قد تُذرف الدموع وتُسمع الآهات، ولا يجب أن نلوم من يفعل ذلك، فمحدودية أوانينا الخزفية الهشة تجعلنا نئن ونتوجع.

   بأي شيء يا ترى تتمخض هذه التساؤلات وفي أي طريق تقودنا؟ أليست الحيرة والأنين هي التي تدفعنا أن نأتي بقلوب منكسرة إلى عرش النعمة حيث نلتقي برئيس الكهنة العظيم والرحيم الذي يرثي لضعفاتنا، ويعلم محدودية طاقتنا واحتمالنا، وهو وحده القادر أن يعين المجربين سواء المرضى أنفسهم أو ذويهم المتألمين بسببهم.  إن ما نرتجيه ليس جوابًا على التساؤلات بل نرتجي نعمة الرب يسوع التي تشفي وتعين وتعطي التعويضات.

 مرضى من رجال الله في الكتاب:

   جيد أن تأخذنا حيرتنا إلى كلمة الله التي فيها نعم الجواب.  فبين شخصيات الكتاب المقدس نجد أتقياء سمح الرب لهم بأمراض مستعصية، منهم من مرض بمرض شديد ثم رحمه الرب وشفاه، كما يوجد أيضا من مرض بمرض مميت وشاء الرب أن يموت بمرضه.

  مثلاً أيوب قد ضُرب في جسده بقرح رديء أضاف إلى أحزانه وأوجاعه ألمًا ليس بقليل.  أما الرب فبارك آخرة أيوب أكثر من أولاه، فختم على أتعابه بالتعويض والشفاء والفوائد الروحية.  لا شك أن أيوب في تجربته التمس من الرب الشفاء، لكن ما جعله يحتمل التجربة بصبر هو قوة الرجاء التي جعلته يمد البصر إلى النهاية السعيدة، فتشدد في وسط بليته وعبَّر في لهفة عن أمنيته قائلاً: «لَيْتَ كَلِمَاتِي الآنَ تُكْتَبُ. يَا لَيْتَهَا رُسِمَتْ فِي سِفْرٍ، وَنُقِرَتْ إِلَى الأَبَدِ فِي الصَّخْرِ بِقَلَمِ حَدِيدٍ وَبِرَصَاصٍ».  ما الذي يريد أيوب أن يخلده؟  إنه إعلان اشتهى أن يبقى طول الزمان ليقرأه كل تقي يعاني فيبث في قلبه الإيمان.  واستطرد بقوله: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ … إِلَى ذلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي» (أي19: 23 – 27).

   إنه بالإيمان استطاع أن يرى ما لا يُرى.  رأى أيوب أن جسده العليل ليس سوى خيمة سوف تطوى وبعدها سيطير ويرى بعينيه وليه الحي الذي ارتبط به،  فتوَّلد في أعماقه شوقًا وحنينًا إلى تلك الحالة المجيدة التي أسرت أفكاره ومشاعره فسكنت آلامه وكفكفت دموعه.

   أخي الحبيب: تذكر أن لنا صديقًا في السماء، هو الكاهن الرحيم الذي يقدر أن يعين المجربين.  وأحد صور المعونة الإلهية أن يأخذ بأبصارنا إلى الأبدية حيث لا بكاء في تلك الربوع، وحيث سنلبس الأجساد الممجدة التي لا يتسرب إليها الضعف ولا المرض والموت لا يكون فيما بعد.

   أما أليشع رجل الله فهو مثال لتقي شاء الرب أن يمرض بمرض شديد مات به.  فعندما زاره يوآش ملك إسرائيل ورآه وقد اشتد به المرض، وكأنه يحتضر تدريجيًا، بَكَى على وَجْهِهِ وَقَالَ: «يَا أَبِي، يَا أَبِي، يَا مَرْكَبَةَ إِسْرَائِيلَ وَفُرْسَانَهَا».

   كم مرة سألت نفسي؟ ما أبعد الفرق بين الطريقة التي بها أنهى الرب خدمة إيليا والطريقة التي أنهى بها خدمة أليشع؟ فالأول أخذه في مجد إلى السماء دون أن يعاني من ضعف الجسد أو شوكة الموت، بينما الآخر يجتاز في مرض شديد تمكن من جسده الواهن حتى مات.

   ألم يستطع الرب أن يشفي نبيه العزيز، الذي استخدمه في معجزات شفاء وإبراء عجيبة من قبل؟ ألم يكن يستحق أليشع أن يكرمه الرب بإعفائه من هذه التجربة الأليمة؟ كل علامات الاستفهام هذه قد ترتسم أمامنا عندما نرى مرضًا رديئًا قد أصاب أحد أحبائنا النافعين وتمكن من جسده فأصبح سببًا في رقاده.

   قد تستمر هذه التساؤلات دون أن نجد جوابًا لأن الرب الصالح الحكيم وحده غير مُلزم أن يشرح مكنونات حكمته التي تفوق إدراكنا المحدود، لكنه مُلزم في أمانته ورحمته الكثيرة أن يرسل معونة وعزاء ويسند قلوب المتألمين بمساند النعمة والرجاء.  فالمؤمن الذي يرقد في الرب يربح ما لا يمكن أن تصفه الكلمات.  وفي ذات الوقت يتشدد أحباؤه بقوة الرجاء، والرب كفيل بأن يشفي جروحهم بفيض تعزياته.   

نار المرض تحرق كي تفوح الأطياب

   في ختام  سفر أيوب نرى الرب في عظمة نعمته ورقة قلبه لا يذكر لأيوب شكواه وتساؤلاته المُرة، لكن يشهد أنه تكلم عنه بالصواب أكثر من أصحابه.  وفي رسالة يعقوب في العهد الجديد لا نقرأ عن زفرات أنينه بل عن كونه نموذجًا يُحتذى به في الصبر والاحتمال.  فالرب يعرف كيف يستثمر أتعاب قديسيه ليستخلص منها الأطياب، بل ويعرف كيف ينشر نسيم رائحتها الزكية ليُعطر بعبيقها دروب المتألمين، فينعش بسيرتهم نفوسًا بائسة تجتاز في ذات الطريق الأليم.

   كان أيوب مثل شجرة البلسان التي إذا جُرحت سال منها المُر القاطر في الحال، هكذا فاح الطيب من قلبه المحترق حين بارك الرب وهو في قلب التجربة.  وبينما كان الشيطان يترقب والإنسان يتعجب كان اسم الرب يتعظم.  صحيح أن الصدمة قد مزقت قلبه لكن صورة إلهه الصالح لم تهتز في نظره.

   هكذا تفوح الأطياب من جروح الأتقياء الذين قرروا أن يمجدوا الله في أجسادهم (صحيحة كانت أم عليلة) وفي أرواحهم التي هي لله.  ولن تمنع الآهات والدموع هذه الأطياب أن تفوح وتتصاعد إلى أنف الرب.  أطياب الصبر والشكر في الآلام، أطياب التسليم الممتزج بالإيمان، أطياب الشهادة عن صلاح الرب ومراحمه رغم الأحزان.

   تعويضات الإله الرحيم تفوق الأتعاب:

   اولا: معونة الرب الشخصية

   أول تعويض من الرب للتقي الذي يعاني من مرض صعب هو أن يجد الرب بجانبه قريبًا منه.  الرب الذي يقدر أن يعين المجربين ويبث في قلوبهم إيمانًا ويملأهم بسلامه العجيب.  «الرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الضُّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ» (مز41: 3).

   ثانيا: محبة القديسين

   أحد صور التعويض هي محبة القديسين.  إنه امتياز عظيم أن يحيط أولئك الأفاضل، الذين لهم أحشاء رقيقة كسيدهم مثل أزهار السوسن المنعشة زكية العبير.  لقد اختبرت كيف تُسكَّن آلام الجسد المُبرحة بشركة القديسين المُفرحة.  كيف تصير من الكنيسة صلاة بلجاجة فيسمع الرب ويصنع ما اعتقد البشر أنه محال، سواء مع المريض أو مع من حوله.  كما أنها فرصة للقديسين أن يعبروا عن إخلاصهم للرب بصدق محبتهم ومودتهم لإخوتهم.  «كنت مريضًا فزرتموني .. بما أنكم فعلتم بأحد هؤلاء .. فبي فعلتم».  قال أحد المؤمنين المتألمين وهو على فراش المرض بعد زيارة بعض الأحباء له: ”هؤلاء المحبين لم يتفوهوا بكلمة واحدة لكن في صمت مهيب سالت دموعهم على وجوههم فكانت أقوى في تأثيرها من كل جرعات المسكنات والمهدئات. فدموع المحبة الصادقة قد أنعشت روحي وخففت آلامي“.

  ثالثا: التشكيل الإلهي

   فراش المرض يشبه بوتقة الصائغ التي يضع فيها الذهب لينقيه ويعيد صياغته.  فيضعه على النار حتى ينصهر فتنفصل الشوائب ويبقى الذهب النقي.  ثم يتأكد أن صورته قد ظهرت على صفحة الذهب المنصهر، كمرآة يرى فيها وجهه، والصائغ يحقق مقصده دون أن يتلف أو يخسر ذرة واحدة من ذهبه الثمين.  كم بالأكثر يكون ربنا الفخاري العظيم والصائغ الماهر الذي يزكي الإيمان الذي هو أثمن من الذهب الفاني، يضمن سلامة قديسيه مهما تعقدت الحالة الصحية بالمنظور البشري.  وهكذا يخرج المؤمن المجرب من هذه الظروف الأليمة بفضائل كريمة وعلاقة حميمة مع الرب، فيكون أكثر اتضاعًا وخضوعًا، وأكثر أمانةً وإيمانًا، وصبرًا واحتمالاً، وأكثر شبهًا بالمسيح.

رابعا: تشجيع مُجرَّبين آخرين

   امتياز من الرب للمؤمن المتألم أن يكون مستخدمًا ليشجع آخرين ويعزيهم بذات التعزية التي تعزى بها من الله.  «مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الَّذِي يُعَزِّينَا فِي كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ الَّتِي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ» (2كو1: 3،4).

    عزيزي القارئ .. ربما تكون قد اختبرت معونة الرب في وقت مرضك، تذكر أن إخوتك العابرين ذات الدرب الضيق الذي جزت فيه يحتاجون إلى صلاتك واتصالاتك، تشجيعك ودموعك وزياراتك. 

 خامسا: التعويضات والمكافئات الأبدية

   الذي يحتمل بصبر وشكر فترة المرض العصيبة يقينًا سوف ينال المكافأة ويسمع كلمات المديح من رب المجد ذاته.  «الَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ الآنَ¬ إِنْ كَانَ يَجِبُ ¬ تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1بط1: 6،7). «طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يع12:1).

   إخوتي المتألمين على فراش المرض، العابرين في وادي الألم، لنتقوَ بالنعمة ونزداد في الرجاء بقوة الروح القدس، فلا نركز أنظارنا على الحاضر الذي نجتاز فيه بأجوائه الملبدة بالغيوم بل على كوكب الصبح الذي دنا جدًا.  «فتأنوا أيها الإخوة إلى مجيء الرب … لأن مجيء الرب قد اقترب». «آمين تعال أيها الرب يسوع»

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies.