خاطئتان وتبرئة الديان

الاخ انور داود

في بشارة  لوقا أصحاح 7 : 36- 50 وبشارة يوحنا 8 : 1- 11نجد قصتين حقيقيتين حدثتا أيام الرب.  في كل قصة هناك  إدانة من الآخرين لخاطئة ولكن الرب يبريء كل منهما ولما في القصتين من تشابه، لنا فيهما هذا التأمل:

القصة الأولى في لوقا :7 دعا الفريسي الرب ليدخل بيته ليأكل خبزًا:

لا نعلم سبب دعوة الفريسي للرب، هل بقصد الرياء أو لأنه يريد أن يصطاده بشيء كعادة الفريسيين أيام حياة الرب، ورغم علم الرب بكل الدوافع وبكل ما لا نستطيع أن نصل إليه من توقع، فهو العارف بكل القلوب، لكنه قَبلَ هذه العزومة الثقيلة ودخل لبيت الفريسي وأثناء ذلك دخلت للبيت امرأة خاطئة لأنها علمت أن الرب في بيت الفريسي وكم كان صعب على امرأة خاطئة في المدينة ومعروف في كل المدينة أنها خاطئة (لو7: 37) أن تدخل بيت شخص لا توجد عنده مشغولية سوى ببره هو ورداءة غيره وعندما دخلت المرأة قبلت قدمي يسوع وابتدأت تبللهما بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وهنا بدأت نظرات الإستحقار وأحكام الإدانة في الفكر ليس فقط تجاه هذه المرأة المسكينة، بل تجاه الرب نفسه ونحن كم نقع في أحكام إدانة تجاه الآخرين، حتى وإن كانت إدانة في الفكر وكم نتناسى أن الرب يعرف أفكارنا “فهمت فكري من بعيد” ( مز139: 2) ونقع  في هذه الخطية في محضر الرب حتى في الكنائس والاجتماعات الروحية وربما ندين الآخرين في حياتهم أو سلوكهم أو حتى في عبادتهم وخدماتهم الروحية ونتجاهل أن “فكر الحماقة خطية” (أم24: 9 )، فمن الحماقة أن ندين في حضرة الديان ونصدر أحكامًا على غيرنا، مع أننا قد نكون أشر منهم!!  ففي هذه القصة ضرب الرب للفريسي مثل المديونان، واحد عليه خمسون دينار والآخر خمسمائة وهذا المثل ضربه بناء على أفكار الفريسي عن نفسه وعن المرأة الخاطئة وكأنه يقول له: بحسب ظنك أن عليك فقط خمسين دينار، لكنك مديون وهي عليها خمسمائة دينار وهو مديونة أيضًا كذلك، لكن كلا دينكم يصعب سداده (لو7: 42) ولكنني عندي استعداد لمسامحة الجميع، مسامحتك على الخمسين دينار مع أن على الفريسي أكثر ومسامحة المرأة الخاطئة على الخمسمائة، مع أن عليها أكثر، نلاحظ أن الأرقام التى افترضها الرب هي بناء على معتقد الفريسي المريض أنه أبر من المرأة الخاطئة.

 والرب لكي يُعالج هذا الفكر المريض ذكّره ببعض الأمور:

اولا: لا تدن في حضرة الديان: حتى ولو في الفكر، فالمفاجأة التى فاجأ بها الرب الفريسي أنه يقرأ أفكاره ويجاوب على ما يفكر فيه، فقال له: “يا سمعان عندي شيء أقوله لك” (لو7: 40).  وكأنه يقول لسمعان: “فقد تظن أن الآخرين وأعمالهم وتصرفاتهم وحياتهم وخدمتهم وأسرهم موضوع حكمك وتنسى أنك في حضرة الديان، فليس لك الحق أن تدين الآخرين” لأنك أنت نفسك مُدان.

ثانيا: هذه المرأة موضوع مدح الرب لا إدانته:  قال الرب للفريسي كلمات تعبر عن مدى تقديره لما فعلته هذه المرأة الخاطئة، حتى ذكر له أكثر مما سطّره الوحي، فالوحي يسطّر أن هذه المرأة بللت قدمي الرب بالدموع والرب قال غسّلت رجلي بالدموع، ذكر الرب أنه منذ دخلتُ أنا لم تكف عن تقبيل قدميّ، مع أنها دخلت لاحقًا بعد الرب، فكانت تقبّل قدميه منذ أن دخلت البيت، ورغم أنها كانت تقبّل قدميه لكن الرب أشار أنها لم تكف عن تقبيل رجليه فلقد رأي الرب قلبها التائب النادم وعواطفها المُحبة نحوه قبل أن يرى دموعها الخارجية.  

ثالثا: أعلن الرب أن هذه المرأة قد شُفيت عواطفها: من المعروف أن المرأة الخاطئة التي تبيع جسدها بهذا الشكل تموت لديها العواطف تجاه الرجال بصفة عامة، لعلمها أنهم يقتربون إليها لأنهم لا يحبونها، بل يستغلونها، لكن الرب أعلن أن هذه المرأة قد شفيت عواطفها وتحب الرب كثيرًا “من أجل ذلك أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا” ( لو7: 47). هذه المعجزة  قد فعلها الرب مع الكثيرين وما زال يفعلها وهو أن الإنسان الذي يبغض الرب وأموره ويحول نحوه القفا لا الوجه يعود من جديد يحب الرب وينجذب إليه ويجري نحوه، ولا يحب الرب فقط، بل يحب كلمته ويحب أموره ويحب المؤمنين به.

ولم تخرج هذه المرأة من محضر الرب بغفران خطاياها الكثيرة فقط، لكن حظيت أيضًا بالقول المبارك: “إيمانك قد خلصك. اذهبي بسلام” (لوقا7: 50).

القصة الثانية واردة في يوحنا 8 لامرأة خاطئة لم تأتِ من نفسها كالمرأة التي ذكرها لوقا، بل لقد أحضرها الفريسيون والكتبة وقد أمسكوها في ذات الفعل، بمعنى أنه لا توجد لديها أية فرصة للدفاع عن نفسها أو حتى إنكار ما حدث مثلما يحدث في مثل هذه المواقف.

وفيما كان الرب يُعلّم، أحضروها له وأقاموها في الوسط وكل منهم كان ماسكًا حجرًا كبيرًا قائلين له: “إن موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فماذا تقول أنت””.  مع أن موسى قال في الناموس يُرجم الزاني والزانية، لماذا لم يحضروا الزاني أيضًا؟  على أية حال، يقول الكتاب إنهم بهذا أرادوا أن يجدوا ما يشتكون به عليه فلعلمهم بقلب الرب وعفرانه أرادوا أن يدخلوه في مشكلة، فلو أوصى بالعفو عنها يكون بهذا قد علم وعمل بعكس ما يعلم به الناموس ولو أمر برجمها، فما الجديد الذي أتى به؟! كما أنه كيهودي لا يمتلك سلطة لقتل إنسان بالرجم فهذه كانت للرومان حكام البلاد (يو18: 31).

ما فعله الرب لتبرئة المرأة نتعلم منه هذه الدروس:

اولاقال لهم الرب: “من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر”: لقد تسابقوا فيمن سيكون له نصيب الرمية الأولى لرجم هذه المرأة التى لا يوجد لديها أي أمل في النجاة وقد أجمع المفسرون أن الرب كان يقصد من منكم بلا خطية من هذا النوع أي ذات النوع الذي سقطت فيه المرأة الخاطئة وهو الزنى والمفاجأة لنا لكنها لم تكن مفاجأة للرب، فلقد كان يعلم من البداية أن الدائنين هم أيضًا مدانون، فبكل اسف حتى الشيوخ كانت علتهم هذه الخطية، ففي محضر الديان كشفت الأفكار، حتى آراء القلوب أُظهرت، فخرج الجميع واحدًا واحدًا ابتداء من الشيوخ إلى الآخرين.   لقد وقعوا في الإسقاط، فأسقطوا ما فعلوه على هذه المرأة وما كان يجب أن يدينوه في أنفسهم أدانوه وبشدة في هذه المرأة.

ثانيا: واجه عنها المشتكين: لا نعلم ماذا كتب الرب في المرة الأولى عندما انحنى إلى أسفل وكان يكتب بأصبعه ولا نعلم ماذا كان يكتب في المرة الثانية عندما انحنى لأسفل، هل مرة كتب أسماءهم ومرة كتب أمام كل اسم الخطايا كما يُخمن البعض، لكن بحسب ظني أن الرب رقيق المشاعر انحنى لكي لا يعمق فيهم الشعور بالحرج لسبب خطاياهم المشينة التى كشفها، فأعطاهم بهذا فرصة للخروج من حضرتهم بدون إحراج لهم أكثر وبالتالى تتبرأ هذه المسيكنة من هؤلاء الذين رغم أنهم لم يرجموها بحجارتهم، لكنهم رجموها بنظراتهم وعندما رفع رأسه لم يجد سوى المرأة، فقال لها: “أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟  فقالت: لا يا سيد. فقال لها ولا أنا أدينك”.   فأراد الرب أن يوضح لها أنه دافع عنها أمام المشتكين وأنه يشترك معها في أن الآخرين يشتكون عليه هو ايضًا (يو8 : 6.

ثالثا:علمها درسًا عن النعمة التى تعلم أن ننكر الفجور والشهوات العالمية: فعندما قال لها الرب: “أنا لا أدينك”، عقب بالقول: “اذهبي ولا تخطيء أيضًا” (يو8: 11). فالنعمة والغفران لا يعلمنا التسيب ولا يعطينا الحق أن نعطي فرصة للجسد، بل بالعكس، فمطاليب النعمة من جهة حياة القداسة أكثر من مطاليب الناموس، لكن الفارق أن النعمة تعطي قوة للتنفيذ فتذوقنا نعمة الله وصفحه وغفرانه يعمق فينا الخجل من حالتنا ويجعلنا نكره الضعف والخطية لئلا نجرح مشاعر من قدم لنا هذه المحبة الحقيقية، عندما نجانا من الدينونة، فاحتملها عوضًا عنا، فالرب على الصليب لم تقع عليها حجارة كنا سنُرجم بها، بل انصبت عليه كل الدينونة والغضب.

نلاحظ أن الرب لم يُبرر خطأها أو يلتمس لها الأعذار أو يخفف من وطأة الذنب الذي فعلته لكنه استخدم الحق والمحبة معًا، القداسة والنعمة في توازن تام لكي يُبرر الخاطئة ويدين الخطية في نفس الوقت بالإضافة إلى أنه منحها القوة لكي لا تعود مرة أخرى للخطية.

حقًا يا لروعة ربنا!  فمع أن له حق الدينونة لاعتبارات قداسته المطلقة ولأجل أن الآب أعطى كل الدينونة له (يو5: 22)، لكن عندما يدخل محضره الخاطئ يحظى بالعفو العظيم، فمن نحن لندين الآخرين؟!  ليتنا نكف عن الإدانة في محضر الديان.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This website uses cookies. By continuing to use this site, you accept our use of cookies.